دراسات إسلامية

 

نحو النهوض باللغة العربية

بقلم:  أ. د/ محمد بلاسي

عضو المجلس العالمي للغة العربية (*)

 

 

     إنّ النهوض باللغة العربية من النواحي كافة يجب أن يتصدر أولويات العمل العربي المشترك على جميع المستويات. لا أقول: العمل العربي الثقافي التعليمي فحسب، بل أقـول: العمل العربي العام على مختلف الأصعدة؛ لأن النهوض باللغة ليس مسألة ثقافية، ولا هي مسألة تربوية تعليمية فحسب، وإنما هي مع ذلك مسألة السيادة والأمن والاستقرار والمصير.

     فاللغة العربية: هي وعاء ثقافتنا، وعنوان هويتنـا، والمحافظة عليها تعدّ محافظة على الذات وعلى الوجود.

     وكان علماء الأمة رحمهم الله في صدرها الأول على وعي كامل بأثر اللغة في تكوين الأمة، وخطرها في بناء شخصية المسلم؛ لذا حرصوا حرصاً شديداً على المحافظة على لغة القرآن والسنة، وشدّدوا النكير على من حـاد عنها إلى غيرها، واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

     هذا؛ في الوقت الذي تعد فيه اللغة الأم شريكة ثـدي الأم في إيضـاح نمو الصغير ورعاية قيمه واكتمال شخصيته.

     وها نحن أولاء نلاحظ على الصعيد العالمي أنه ما من شعب أراد الحياة العزيزة الكريمة إلاّ وتمسك بلغته الأم أمام اللغات الغازية.

     ففي «فيتنــام»: دعا القائد الفيتنامي «هوشى مينه» أبناء أمته قائلا: «لا انتصار لنا على العـدو إلا بالعودة إلى ثقافتنا القومية ولغتنا الأم».

     ويقول في وصاياه للفيتناميين: «حافظوا على صفاء لغتكم كما تحافظون على صفاء عيونكم، حذار من أن تستعملوا كلمة أجنبية في مكان بإمكانكم أن تستعملوا فيه كلمـة فيتناميــة».

     وفي اليابان: استسلمت في الحرب العالمية الثانية تحت وطأة القنابل الذرية الأمريكية؛ ففرض الأمريكيون شروطهم المجحفة على اليابان المستسلمة، مثل تغيير الدستور، وحل الجيش ونزع السلاح... الخ.

     وقد قبلت اليابان جميع تلك الشروط ماعدا شرطاً واحـداً لم تقبل به، وهو التخـلي عن لغتها القومية في التعليم، فكانت اليابانية منطلق نهضتها العلمية والصناعية الجديدة..!

     ولِمَ نذهب بعيدا؛ فها هي ذي إسرائيل: أقامت كيانها على إحياء اللغـة العـبريـة، وهي لغـة ميتة منــذ ألفي سنـــة، فاعتمــدتها في جميع شؤون حيـاتها تعليمًا وإعــلامًا وتواصلاً؛ حتى إنّ المؤتمــرات الذريــة والنوويــة تعقد باللغة العبرية لا بالإنجليزية!

     وغنيّ عن البيان: أنّ اللغة العربية اصطفاها الله تعالى لتكون وعاءً لكتابه الخالد (القرآن الكريم) ولاشك أنها لغة تتربع على عرش الألسنة واللغات؟.

     يقول المستشرق الفرنسي «لويس ماسينيون» عن اللغة العربية: وباستطاعة العرب أن يفاخـروا غيرهم من الأمم بما في أيديهم من جوامع الكلم التي تحمل من سموّ الفكر وأمارات الفتوة والمروءة ما لامثيل له».

     فاللغة العربية تمتاز عن اللغات الأخرى بأنها: لغة دين، وتعلمها واجب، حيث حملت آخر الرسالات، وأريد لها أن تكون لسان الوحي، وقدّر لها أن تستوعب دليل نبوة الإسلام، واختـزال مضامين الرسالات السابقة، والانطواء على المنهج الذي ارتضاه الله لخلقه إلى يوم الدين.

     فضلاً عن أن معرفة اللغة من الدين، ومعرفتها فرض واجب، وإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يُفهم إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. على حد قول ابن تيمية -.

     وفي العصور الأولى كادت العربية أن تكون مرادفة للإسلام؛ فقد سأل أبو جعفر المنصور يوماً - مولىً لهشام بن عبد الملك (ت 132هـ) عن هويته؛ فقال المولى: «إن كانت العربية لساناً فقد نطقنا بها، وإن كانت ديناً فقد دخلنا فيه!».

أبرز التحديات التي تواجهها اللـّـغة العربيّـة:

     ونظراً لأهمية اللغة العربية البالغة في حياة المسلمين؛ اتخذت محاربة اللغة العربية الفصيحة أشكالاً متعددة، منها: وصم لغتنا بالتخلف، وعدم مواكبة روح العصر، والتفجّر المعرفي، وبأنها لغـة البداوة وليست لغة العلم، ووصمها بالصعوبة والتعقيد؛ بسبب نحوها وصرفها وكثرة الحركات فيها، وأنها تفهم لتقرأ خلافا لبقية اللغات؟!

     إلاّ أن أبرز هذه التحديات التي تواجهها لغتنا الخالدة وأخطرها على الصعيدين الخارجي والداخلي في عصرنا الحالي، ما يلي:

أولا: من التحديات الخارجية:

     1-  العولمة: حيث إنّ العولمة الثقافية تروم نشر اللغة الإنجليزية لغة القطب الواحد وهيمنتها في التعليم والتواصل.

     2-  نشر اللغات الأجنبية على حساب العربية.

     3-  إحياء لغات الأقليات: حيث يقدم الدعم السخيّ للقائمين بها؛ تحت شعار: (حقوق الإنسان)!.

     4-  محاولة شطب اللغة العربية من الأمم المتحدة: بحجة عدم استعمال ممثلي الدول العربية للغة العربية في الأمم المتحدة؛ فهم يستعملون الإنجليزية أو الفرنسية في إلقاء كلماتهم ومناقشاتهم.

     5-  ترويج المصطلحات المعادية لأمتنا العربية: حيث تروج الدوائر المعادية لأمتنا بعض المصطلحات، وتعمل على سيرورتها وانتشارها، ومن بين هذه المصطلحات: «منطقة الشرق الأوسط»؛ إذ إنّ هذا المصطلح يشمل منطقة لا هوية لها؛ لإزالة الهوية العربية، وليحل هذا المصطلح مكان «الوطن العربي» أو «البلاد العربية» أو «الأمـة العربية».

     6-  ضعف ما ينشر باللغة العربية على شبكة الإنترنت: حيث إنّ 80% من الصفحات المتوفرة على شبكة «الويب» مكتوبة بالإنجليزية؛ وهذا يسبب الكثير من الإشكاليات.

     7-  إحياء الدعوة إلى استعمال اللهجات العامية مجددًا: حيث يتم تشجيع البحوث التي تخدم العاميات وتقديم الدعم المادي لها. ووصل الأمر إلى أن بعض الجامعات الأمريكية قامت بإلغاء تدريس اللغة العربية والاستعاضة عنها باللهجات العربية مثل: الشامية والمصرية والمغربية والعراقية.

ثانيا: من التحديـات الداخليـة:

     1-  ضعف الانتماء للوعي اللغـوي: حيث نجد هيمنة اللغات الأجنبية في الجامعات الخاصة وفي المدارس الخاصة حتى في رياض الأطفال.

     2-  وصم العربية بالتخلف، وعدم مواكبة العصر.

     3-  البيئـة العربية ملوثة لغويـــا: من حيث استشراء اللهجات العامية، وانتشار الكلمات الأجنبية على المحال التجـارية والمطاعم والفنادق والحياة العامة، والكلمات العامية والأخطاء النحوية على وسائل النقل وفي الإعلانات والإعـلام.

     4-  عدم وجود مشروع قومي - في كل قطر -؛ لتعريب العلوم: وأؤكد على أن جميع مستلزمات التعريب متوفرة، ولا تحتاج إلا إلى أمرين:

     أولا: منهجية واضحة في التعريب تتضمن برنامجاً زمنياً يلتزم به ويطبق، لتعريب المراجع الأساسية والبرمجيات، باستخدام المصطلحات العلمية العربية الموحدة، وتدريب الأساتذة المعنيين على استعمال اللغة العربية في التدريس والبحث العلمي.

     ثانيا: توفر الإرادة الصادقة، لدى أصحاب القـرار.

     ولن يتأتى هذا إلا من خلال قـرار سياديّ، ومشروع قومي في كل قطر عـربي؛ فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن! ولنا في التجربة السورية خير شاهد في مجال تعريب علوم الطب.

     5-  الدعوة إلى العامية: ولخطورة هذه القضية، فقد دقّ ناقوس الخطر الأستاذ محمود محمد شاكر منذ عشرات السنين؛ حيث قال: «تلك قضية من أعقد القضايا التي ابتلي بها العالم العربي خاصـة، والعالم الإسلامي عامة، ولا تزال حية إلى اليوم، بل بلغت عنفوانها في هذه السنين الأخيرة، وليس لها شبيه في العالم كله... والكشف عن حقيقة هذه القضية، وهي قضية العامية والفصحى، كشفٌ عن أعظم مؤامرة خبيثة، بدأت خافتة، ثم علا صوتها... والمشتركون في القضية، بين غافل لايدري ماذا يقول، ولا ماذا يُراد به، وبين ماكر خبيث يُضرم النار في الحطب؛ لتأكل الأخضر واليابس بعد قليل.

وعن سبل النهوض باللغة العربيــة:

     فقد سطر لنا التاريخ بأحرف من نور جهود رواد بذلوا ما بوسعهم لخدمة هذه اللغة الخالدة (اللغة العربية). فمثلا عندما تولى سعد زغـلول وزارة المعارف في مصر، أمر أن تدرس المقررات كلها باللغة العربية، مما دفع أحد المفكرين المصريين إلى القول: (إنّ سعدًا أحسن إلى جيلنا كله بجعلنا عربا ) فكم سعداً نحتاج إليه.

     والجهد موصول؛ حيث صدر في مصر مؤخرًا القرار الجمهوري رقم 112 لسنة 2008م؛ وفيه: تنفيذ ما يصدره مجمع اللغة العربية من قـرارات؛ لخدمة سلامة اللغة العربية.

     وفي سوريا: صدر القرار الجمهوري رقم 4 بتاريخ 26/1/2007م؛ بتكوين لجنة للتمكين للغة العربية والمحافظة عليها والاهتمام بإتقانها والارتقاء بها.

     وفي العـراق: شرّع الرئيس الراحل صدام حسين قانون حماية اللغة العربية وفرض استعمالها في شؤون البلاد كلها.

     ومثل هذا التشريع: صدر في دولة الإمارات العربية المتحـدة، وقطر، والمملكة العربية السعودية.

     لكن مثل هذه القرارات، لابدّ من تفعيلها والتمكين لها في مناهجنا وتعليمنا وإعلامنا وفي سائر مناحي حياتنا؛ لذا أرى تضافر الجهود؛ لأنّ ضعف العرب في لغتهم العربية ظاهرة غريبة تسترعي الاهتمام، وتستوجب المعالجة الجـادة العميقة من خلال العمل على جبهات متعددة؛ بما يمكن أن تقوم به في نطاق تخصصها، على النحو الآتي:

أولا: وزارة التربية والتعليم:

     من الممكن أن تعمل على تنفيذ ما يأتي:

     1-  إجراء دورات تدريبية لمعلمي الأطفال على استخدام العربية الميسرة في رياض الأطفال.

     2-   التركيز في مرحلة الطفولة بوصفها أهم المراحل المشكلة لعقلية الطفل العربي على القصائد والأناشيد السهلة بغية تنمية مهارة التذوق والحس اللغوي لدى الطفل.

     3-  التزام جميع المعلمين وفي مراحل التعليم كافة باستخدام اللغة العربية في العملية التعليمية، وألا يخضعوا للترقية في وظائفهم إلا إذا أثبتوا إتقانهم أساسيات لغتهم.

     4-  الإشراف الفعّال على المدارس الخاصة، والارتقاء بواقع اللغة العربية فيها.

     5-  ضبط الكتب المؤلّفـة بالشكل في جميع المواد الدراسية، وخاصة في مرحلة التعليم الأساسي، والاستمرار في عملية الضبط في المراحل التاليــة، على أن يضبط ما يخشى منه اللبس بصورة خاصة.

ثانيا: وزارة التعليم العـالي:

     من الممكن أن تقوم بالآتي:

     1- جعل مقرر اللغة العربية متطلبا جامعيا في الجامعات الرسمية والخاصة وفي مختلف التخصصات.

     2-  إلزام أعضاء الهيئة التدريسية في الجامعات والمعاهد باستخدام العربية الفصيحة في دروسهم كافة، والابتعاد عن استخدام العامية في الشرح، وتدريب طلابهم على استعمال العربية في أسئلتهم وأجوبتهم.

     3-  تطوير المناهج بصورة مستمرة مواكبة لروح العصر، والحرص على استخدام اللغة العربية السليمة فيها.

ثالثا: وزارة الإعـــلام:

     يمكن أن تلعب دورًا كبيرًا في:

     1-  بث برامج تليفزيونية تعني باللغة العربية من حيث سماتُها وخصائصها وجمالها.

     2-  بث برنامج يعني بتصويب الأغلاط الشائعة في لغة الحيـاة، على أن يكون إخراجه بطريقة غير مباشرة وبأسلوب شائق.

     3-  رفض الأعمـال الدرامية المصوغة باللهجات المحلية.

     4-  عقد دورات تدريبية مستمرة للعاملين في الإعـلام؛ بغية تحسين أدائهم اللغوي.

     5-   إنجاز برامج لتعليم اللغة العربيـة لأبنائها وللأجانب الراغبين في تعليم اللغة العربية، وذلك بالتنسيق مع المعاهد المتخصصة في هذا المجال في كل قطر.

     6-  الإكثار من بث البرامج النوعية الخاصة بالأطفال بالعربية المبسطة.

     7-  تنظيم مسابقات دورية للإنتـاج الإعلامي باللغة العربية الفصيحة على المستوى العربي.

رابعا: وزارة الثقــافة:

     وتضطلع بدورها في مجال الارتقاء باللغة العربية على النحو الآتي:

     1- تقديم العروض المسرحية المصوغة بالعربية الفصحى، ورفض العروض المنجزة بالعامية واستبعادها في القطاعين العام والخاص.

     2-  تفعيل طباعة الكتب من التراث، على أن يتم اختيارها بدقة، وعلى أن تضبط بالشكل.

     3-  إعداد معاجم مصورة للأطفال في المراحل العمرية المختلفة لتزويد الأطفال بالمفاهيم الأساسية.

خامسا: وزارة الأوقـــاف:

     ويمكن أن يكون لها دور فاعل في هذا الميدان عن طريق:

     1-  رفع المستوى اللغوي لخطباء المساجد، وإجراء دورات تدريبية للارتقاء بالمستوى اللغوي للخطباء، وعدم استخدام العامية في الخطب، بحجة النزول إلى مستوى لغة الجمهور.

     2- التركيز في جانب من الخطب والوعظ على تنمية الوعي اللغوي.

    وبعد؛ فيجب إيلاء اللغة العربية التي ترتبط بتاريخنا وثقافتنا وهويتنا كل اهتمامنا ورعايتنا؛ بحيث تعيش معنا في مناهجنا وإعلامنا وتعليمنا كائنا حياً ينمو ويتطور ويزدهر، ويكون في المكانة التي يستحقها جوهرًا لانتمائنا القومي؛ حتى تكون قـادرة على الاندماج في سياق التطور العلمي والمعرفي في عصر العولمة والمعلومات؛ لتصبح أداة من أدوات التحديث ودرعاً متينة في مواجهة محـاولات التغريب والتشويش التي تتعرض لها ثقافتنا..

     وإنني على يقين من أنّ الجميع إذا تكاتف وعمل معًا في سبيل هذه اللغة؛ خدموا لغتهم أخلص خدمة؛ لأنها لغة (القرآن الكريم)؛ التي كتب الله لها النماء والبقاء والخلود..

 

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، محرم – صفر 1437 هـ = أكتوبر – ديسمبر 2015م ، العدد : 1- 2 ، السنة : 40

 



(*)      3 شارع الشهيد محمد عبده – قسم النحال – الزقازيق – جمهورية مصر العربية.

         drmohammadplasy@gmail.com